فصل: ذكر الإسكندر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 وقال ابن خرداذبه‏:‏ إنّ الإسكندرية بنيت في ثلثمائة سنة وأنّ أهلها مكثوا سبعين سنة لا يمشون فيها بالنهار إلا بخرق سود مخافة على أبصارهم من شدة بياض حيطانها ومنارتها العجيبة على سرطان زجاج في البحر وإنه كان فيها سوى أهلها ستمائة ألف من اليهود خَوَل لأهلها‏.‏

وقال ابن وصيف شاه‏:‏ وكانت العمارة ممتدة في رمال رشيد والإسكندرية إلى برقة فكان الرجل يسير في أرض مصر فلا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات ولا يسير إلا في ظلال تستره من حرّ الشمس وعمل الملك صا بن قبطيم في تلك الصحاري قصورًا وغرس فيها غروسًا وساق إليها من النيل أنهارًا فكان يسلك من الجانب الغربيّ إلى حد الغرب في عمارة متصلة فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم في تلك الصحارى وخربت تلك المنازل وباد أهلها ولا يزال من دخل تلك الصحارى يحكي ما رآه فيها من الآثار والعجائب‏.‏

وقال ابن عبد الحكم‏:‏ وكان الذي بنى الإسكندرية وأسس بناءها‏:‏ ذو القرنين الروميّ واسمه‏:‏ الإسكندر وبه سميت‏:‏ الإسكندرية وهو أوّل من عمل لوشى وكان أبوه أول القياصرة وقيل‏:‏ إنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبا بن مرزبه اليونانيّ من ولد يونان بن يافث بن نوح عليه السلام وقيل‏:‏ كان من أهل لوبية كورة من كور مصر الغربية وقال ابن لهيعة‏:‏ وأهلها روم ويقال‏:‏ هو رجل من حمير‏.‏

قال تبع‏:‏ قد كان ذو القرنين جدّي مسلمًا ملكًا تدين له الملوك بمحشد بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب علم من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين في خلب وثأط حرمد ويروى‏:‏ قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا وحدّثني عثمان بن صالح حدّثني عبد اللّه بن وهب عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن سعد بن مسعود التجيبيّ عن شيخين من قومه قالا‏:‏ كنا بالإسكندرية فاستطلنا يومنا فقلنا‏:‏ لو انطلقنا إِلى عقبة بن عامر نتحدّث عنده فانطلقنا إليه فوجدناه جالسًا في داره فأخبرناه‏:‏ إنا استطلنا يومنا فقال‏:‏ وأنا مثل ذلك إنما خرجت حين استطلته ثم أقبل علينا فقال‏:‏ كنت عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخدمه فإذا أنا برجال من أهل الكتاب معهم مصاحف أو كتب فقالوا‏:‏ استأذن لنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فانصرفت إليه فأخبرته بمكانهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما لي ولهم يسألوني عما لا أدري إنما أنا عبد لا أعلم إلا ما علمني ربي ‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏"‏ أبلغني وضوءًا ‏"‏ فتوضأ ثم قام إلى مسجد بيته فركع ركعتين فلم ينصرف حتى عرفت السرور في وجهه والبشر ثم انصرف فقال‏:‏ أدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي فأدخله قال‏:‏ فأدخلتهم فلما وقفوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏"‏ إن شئتم أخبرتكم عما أردتم أن تسألوني قبل أن تتكلموا وإن أحببتم تكلمتم وأخبرتكم لا قالوا‏:‏ بلى أخبرنا قبل أن نتكلم قال‏:‏ ‏"‏ أحببتم أن تسألوني عن ذي القرنين وسأخبركم عما تجدونه مكتوبًا عندكم إن أول أمره إنه غلام من الروم أعطي ملكًا فسار حتى أتى ساحل البحر من أرض مصر فابتنى عنده مدينة يقال لها‏:‏ الإسكندرية فلما فرغ من بنائها أتاه ملك فعرج به حتى استقله فرفعه فقال‏:‏ انظر ما تحتك فقال‏:‏ أرى مدينتي وأرى مدائن معها ثم عرج به فقال‏:‏ انظر فقال‏:‏ قد اختلطت مدينتي مع المدائن فلا أعرفها ثم زاد فقال‏:‏ انظر فقال‏:‏ أرى مدينتي وحدها ولا أرى غيرها قال له الملك‏:‏ إنما تلك الأرض كلها والذي ترى يحيط بها هو البحر وإنما أراد بك أن يريك الأرض وقد جعلك لك سلطانًا فيها سوف يعلم الجاهل ويثبت العالم فسار حتى بلغ مغرب الشمس ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس ثم أتى السدّين وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء فبنى السدّ ثم جاز يأجوج ومأجوج فوجد قومًا وجوهم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج ثم قطعهم فوجد أمّه قصارًا يقاتلون القوم الذين وجوههم وجوه الكلاب ووجد أمّة من الغرانيق يقاتلون القوم القصار ثم مضى فوجد أمّة من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة ثم أفضى إلى البحر المدير بالأرض فقالوا‏:‏ نشهد أن أمره هكذا كما ذكرت وإنا نجده هكذا في كتابنا‏.‏

وعن خالد بن معدان الكلاعيّ‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل عن في القرنين فقال‏:‏ ‏"‏ ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب ‏"‏‏.‏

قال خالد‏:‏ وسمع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه رجلًا يقول‏:‏ يا ذا القرنين فقال‏:‏ اللهم غفرًا أما رضيتم أن تسموا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة‏.‏

وقال قتادة عن الحسن‏:‏ كان ذو القرنين ملكًا وكان رجلًا صالحًا قال‏:‏ وإنما سمي ذا القرنين لأنّ عليًا رضي اللّه عنه سئل عن ذي القرنين فقال‏:‏ لم يكن ملكًا ولا نبيًا ولكن كان عبدًا صالحًا أحب اللّه فأحبه ونصح للّه فنصحه اللّه بعثه اللّه عز وجل إلى قومه فضربوه على قرنيه فمات فسمي ذا القرنين ويقال‏:‏ إنما سُمي ذا القرنين لأنه جاوز قرني الشمس من المغرب والمشرق‏.‏

ويقال‏:‏ إنما سمي ذا القرنين لأنه كان له غديرتان من شعر رأسه يطأ فيهما وقيل‏:‏ بل كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة‏.‏

وعن ابن شهاب‏:‏ إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مشرقها‏.‏

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال‏:‏ كان أوّل شأن الإسكندرية أنّ فرعون اتخذ بها مصانع ومجالس وكان أول من عمرها وبنى فيها فلم تزل على بنائه ومصانعه ثم تداولها ملوك مصر بعده فبنت دلوكة بنت زبا منارة الإسكندرية ومنارة بوقير بعد فرعون فلما ظهر سليمان بن داود عليهما السلام على الأرض اتخذ بها مجلسًا وبنى فيها مسجدًا ثم إن ذا القرنين ملكها فهدم ما كان من بناء الملوك والفراعنة وغيرهم إلا بناء سليمان لم يهدمه ولم يغيره وأصلح ما كان رث منه وأقرّ المنارة على حالها ثم بنى الإسكندرية من أوّلها بناء يشبه بعضه بعضًا ثم تداولها الملوك بعده من الروم وغيرهم ليس من ملك إلا يكون له بناء يضعه بالإسكندرية يعرف به وينسب إليه‏.‏

قال ابن لهيعة‏:‏ وبلغني أنه وجد بالإسكندرية حجر مكتوب فيه‏:‏ أنا شدّاد بن عاد وأنا الذي نصب العماد وحيد الأحياد وشدّ بذراعه الواد بنيتهنّ إذ لا شيب ولا موت وإذ الحجارة في اللين مثل الطين وفي رواية‏:‏ وكنزت في البحر كنزًا على اثني عشر ذراعًا لن يخرجه أحد حتى تخرجه أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن لهيعة‏:‏ والأحياد كالمغار وقال أبو علي القاليّ في كتاب الأمالي وأنشد ابن الأعرابيّ وغيره‏:‏ تسألني عن السنين كم لي فقلت عمر الحسل أو عمر نوح زمن الفطحل لو أنني أوتيت علم الحكل وعشت دهرًا زمن الفطحل لكنت رهن هرم أو قتل وفي رواية‏:‏ علم سليمان كلام النمل أيام كان الصخر مثل الوحل وقال آخر‏:‏ زمن الفحطل إذ السلام رطاب وعندهم أنّ زمن الفحطل‏:‏ زمان كان بعد الطوفان عظم فيه الخصب وحسنت أحوال أهله وقال بعضهم‏:‏ زمن الفحطل زمن لم يخلف بعده وقوله‏:‏ علم الحكل الحكل ما لا يسمع صوته من الحيوان وهذا الرجز لرؤبة بن العجاج بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف بن حيي بن بكر بن ربيعة بن سعد بن مالك بن زيد مناة بن تميم وذلك أنه ورد ماء لعكل فرأى فتاة فأعجبته فخطبها فقالت‏:‏ أرى سنًا فهل من مال قال‏:‏ نعم قطعة من إبل قالت‏:‏ فهل من ورق قال‏:‏ لا قالت‏:‏ يا آل عكل أكبروا أمعارًا‏.‏

فقال رؤبة‏:‏ لما ازدرت قدري وقلت إبلي تألفت واتصلت بعكل حظي وهزت رأسها تستبلي تسألني عن السنين كم لي فقلت لو عمرت عمر الحسل أو عمر نوح زمن الفطحل والصخر مبتلّ كطين الوحل وفي رواية‏:‏ لو أنني أوتيت علم الحكل علم سليمان كلام النمل وسألت أبا بكر بن دريد عن زمن الفطحل فقال‏:‏ تزعم العرب أنه زمان كانت فيه الحجارة رطبة‏.‏

قال ابن عبد الحكم ويقال‏:‏ إنّ الذي بنى الإسكندرية شدّاد بن عاد واللّه أعلم‏.‏

وكانت الإسكندرية ثلاث مدن بعضها إلى جنب بعض منيعة وهي موضع المنارة وما والاها والإسكندرية وهي موضع قصبة الإسكندرية اليوم ونفيطة وكان على كل واحدة منهنّ سور وسور من خلف ذلك على الثلاث مدن يحيط بهنّ جميعًا وقيل‏:‏ كان على الإسكندرية سبعة حصون منيعة وسبعة خنادق قال‏:‏ وإنّ ذا القرنين لما بنى الإسكندرية رخمها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها فكان لباسهم فيها السواد والحمرة فمن قبل ذلك لبس الرهبان السواد من نصوع بياض الرخام ولم يكونوا يسرجون فيها بالليل من بياض الرخام وإذا كان القمر أدخل الرجل الذي يخيط بالليل في ضوء القمر مع بياض الرخام الخيط في ثقب الإبرة‏.‏

ويقال‏:‏ بنيت الإسكندرية في ثلثمائة سنة وسُكنت ثلثمائة سنة وخربت ثلثمائة سنة ولقد مكثت سبعين سنة ما يدخلها أحد إلا وعلى بصره خرقة سوداء من بياض جصها وبلاطها ولقد مكثت سبعين سنة ما يستسرج فيها قال‏:‏ وكانت الإسكندرية بيضاء تضيء بالليل والنهار وكانوا إذا غربت الشمس لم يخرج أحد من بيته ومن خرج اختطف وكان منهم راعٍ يرعى على شاطئ البحر فكان يخرج من البحر شيء فيأخذ من غنمه فكمن له الراعي في موضع حتى خرج فإذا جاريةً قد نفشت شعرها ومانعته عن نفسها فقوي عليها فذهب بها إلى منزله فانست به فرأتهم لا يخرجون بعد غروب الشمس فسألتهم فقالوا‏:‏ من خرج منا اختطف فهيأت لهم الطلسمات فكانت أوّل من وضع الطلسمات بمصر في الإسكندرية وقيل‏:‏ وقال المسعوديّ‏:‏ ذكر جماعة من أهل العلم أن الإسكندر المقدونيّ لما استقام ملكه في بلاده وسار حتى يختار أرضًا صحيحة الهواء والتربة والماء حتى انتهى إلى موضع الإسكندرية فأصاب فيها أثر بنيان وعمدًا كثيرة من الرخام وفي وسطها عمود عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند وهو القلم الأوّل من أقلام حمير وملوك عاد أنا شدّاد بن عاد شدّدت بساعدي الواد وقطعت عظيم العماد وشوامخ الجبال والأطواد وبنيت إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وأردت أن أبني هنا مدينة كإرم وأنقل إليها كل ذي قدم وكرم من جميع العشائر والأمم وذلك إذ لا خوف ولا هرم ولا اهتمام ولا سقم فأصابني ما أعجلني وعما أردت قطعني ومع وقوعه طال همي وشجني وقلّ نومي وسكني فارتحلت بالأمس عن داري لا لقهر ملك جبار ولا لخوف جيش جرّار ولا عن رغبة ولا عن صغار ولكن لتمام المقدار وانقطاع الآثار وسلطان العزيز الجبار فمن رأى أثري وعرف خبري وطول عمري ونفاد صبري وشدّة حذري فلا يغترّ بالدنيا بعدي فإنها غرّارة غدّارة تأخذ منه ما تعطي وتسترجع منه ما تؤتي وكلام كثير يرى فناء الدنيا ويمنع من الاغترار بها والسكون إليها‏.‏

فنزل الإسكندر مفكرًا يتدبر هذا الكلام ويعتبره ثم بعث يحشر الصناع من البلاد وخط الأساس وجعل طولها وعرضها أميالًا وجمع إليها العمد والرخام وأتته المراكب فيها أنواع الرخام وأنواع المرمر والأحجار من جزيرة صقلية وبلاد إفريقية وأفريطش وأقاصي بحر الروم مما يلي مصبه بحر أقيانوس وحمل إليه أيضًا من جزيرة رودس وأمر الفعلة والصناع أن يدوروا بما رسم لهم من أساس سور المدينة وجعل على كل قطعة من الأرض خشبة قائمة وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالًا منوطة بعضها ببعض وأوصل جميع ذلك بعمود من الرخام وكان أمام مضربه وعلق على العمود جرسًا عظيمًا مصولًا وأمر الناس والقوّام على البنائين والفعلة والصناع أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس وتحرّكت الحبال وقد علق على كل قطعة منها جرسًا صغيرًا حرصوا على أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطاره وأحب الإسكندر أن يجعل ذلك في وقت يختاره وطالع سعد فحرّك الإسكندر رأسه وأخذته نعسة في حال ارتقابه بالوقت المحمود فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير الذي فوق العمود فحرّكه وخرج صوت الجرس وتحرّكت الجبال وخفق ما عليها من الأجراس الصغار وكان ذلك معمولًا بحركات هندسية وحِيَل حكمية فلما رأى الصناع تلك الجبال قد تحرّكت وسمعوا الأصوات وضعوا الأساس دفعة واحدة وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس فاستيقظ الإسكندر من رقدته وسأل عن الخبر فأخبر بذلك فأعجب وقال‏:‏ أردت أمرًا وأراد اللّه غيره ويأبى اللّه إلا ما يريد أردت طول بقائها وأراد اللّه سرعة فنائها وخرابها وتداول الملوك إياها وإنّ الإسكندر لما أحكم بناءها وثبت أساسها وجنّ الليل عليهم خرجت دواب البحر فأتت على جميع البنيان فقال الإسكندر حين أصبح‏:‏ هذا بدّ والخراب في عمارتها وتحقق مراد الباري سبحانه من زوالها فتطير من فعل الدواب فلم تزل البناة في كل يوم تبني وتحكم ويوكل من يمنع الدواب إذا خرجت من البحر فيصبحون وقد خرجت وخرّبت البنيان فقلق الإسكندر لذلك وراعه ما رأى من البحر فأقبل يفكر ما الذي يصنع وأيّ حيلة تنفع في ذلك حتى تدفع الأذية عن المدينة فسنحت له الحيلة عند خلوّه بنفسه وإيراده الأمور وإصدارها فلما أصبح دعا الصناع فاتخذوا له تابوتًا من الخشب طوله عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع وجعلت فيه جامات من الزجاج قد أحاط بها خشب التابوت باستدارتها وقد أمسك ذلك بالقار والزفت وغيره من الأطلية الدافعة للماء حذرًا من دخول الماء إلى التابوت وقد جعل فيها مواضع للحبال ودخل الإسكندر في التابوت ورجُلاَن من كتابه ممن له علم بإتقان التصوير وأمر أن تسدّ عليه الأبواب وأن تطلى بما ذكرنا من الأطلية وأمر بمركبين عظيمين فأخرجا إلى لجة البحر وعلق في التابوت من أسفله مثقلات الرصاص والحديد والحجارة لتهوي بالتابوت سفلًا وجعل التابوت بين المركبين وألصقهما بخشب بينهما لئلا يفترقا وشدّ حبال التابوت إلى المركبين وطوّل حباله فغاص التابوت حتى انتهى إلى قرار البحر فنظروا إلى دواب البحر وحيوانه من ذلك الزجاج الشفاف في صفاء ماء البحر فإذا بصور الشياطين على مثال الناس وفيهم من له مثل رؤوس السباع وفي أيديهم الفوس مع بعضهم وفي أيدي بعضهم المناشير والمقامع يحكون بذلك صناع المدينة والفعلة وما في أيديهم من آلات البناء فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصور وحكوها بالتصوير في القراطيس على اختلاف أنواعها وتشوّه خلقها وقدودها ثم حرّك الحبال فلما أحس بذلك من في المركبين جذبوا الحبال وأخرجوا التابوت فخرج الإسكندر وأمر صناع الحديد والنحاس والحجارة فعملوا تماثيل تلك الدواب على ما صوّر فلما فرغوا منها وضعت على العمد بشاطئ البحر ثم أمرهم فبنوا فلما جنّ الليل ظهرت الدواب والآفات من البحر فنظرت إلى صورها على العمد مقابلة إلى البحر فرجعت ولم تعد بعد ذلك فبنيت الإسكندرية وشيدت وأمر الإسكندر أن يكتب على أبوابها‏:‏ هذه الإسكندرية أردت أن أبنيها على الفلاح والنجاح واليمن والسعادة والسرور والثبات في الدهور ولم يرد الباري عز وجلّ ملك السموات والأرض ومفني الأمم أن يثبتها كذلك فبنيتها وأحكمت بنيانها وشيدت سورها وآتاني اللّه عز وجل من كل شيء علمًا وحكمة وسهل لي وجوه الأسباب فلم يتعذر عليّ في العالم شيء مما أردته ولا امتنع عني شيء مما طلبته لطفًا من اللّه عز وجل وصنعًا لي وصلاحًا لعباده من أهل عصري والحمد لله رب العالمين لا إله إلا هو رب كل شيء ورسم بعد هذه الكتابة كلّ ما يحدث ببلده من الأحداث بعده في مستقبل الزمان من الآفات والعمران والخراب وما يؤول أمرها إليه إلى وقت دثور العالم‏.‏

وكان بناء الإسكندرية طبقات وتحتها قناطر مقنطرة عليها دور المدينة يسر تحتها الفارس وبيده رمح لا تضيق به حتى يدور جميع تلك الآزاج والقناطر التي تحت المدينة وقد عمل لتلك العقود والأزاج مخاريق ومتنفسات للضياء ومنافذ للهواء وقد كانت الإسكندرية تضيء بالليل بغير مصباح لشدة بياض الرخام والمرمر وكانت أسواقها وشوارعها وأزقتها مقنطرة كلها لا يصيب أهلها شيء من المطر وكان عليها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلفة الألوان بينها خنادق وبين كل خندق وسور فصول وربما تعلق في المدينة شقاق الحرير الأخضر لاختطاف بياض الرخام أبصار الناس لشدّة بياضه‏.‏

فلما أحكم بناءها وسكنها أهلها كانت آفات البحر وسكانه على ما زعم الإخباريون من المصريين والإسكندريين تختطف بالليل أهل المدينة فيصبحون وقد فقد منهم العديد الكثير فلما علم بذلك الإسكندر اتخذ الطلسمات على أعمدة هنالك تدعى‏:‏ المَسَال وهي باقية إلى هذه الغاية كل واحد من هذه الأعمدة على هيئة السروة وطول كل واحد منها ثمانون ذراعًا على عمد من نحاس وجعل تحتها صورًا وأشكالًا وكتابة‏.‏

قال مؤلفه رحمه الله فيما تقدّم من حكاية ابن وصيف شاه‏:‏ ما يتبين به وهم ما نقله المسعوديّ من أن الإسكندر هو الذي عمل التابوت حتى صوّر أشكال حيوانات البحر فإنّ ابن وصيف شاه أعرف بأخبار أهل مصر وكذلك ما ذكره المسعوديّ من أنّ المسال من عمل الإسكندر وهم أيضًا بل هذه المسال هي المناير التي كان ينوّر عليها والأعلام التي كانت ملوك مصر القدماء تنصبها وهي من أعمال ملوك القبط الأول ومن أعمال الفراعنة الذين ملكوا مصر من قديم الزمان‏.‏

 

ذكر الإسكندر

هو الإسكندر بن فيليبس بن آمنته ويقال‏:‏ آمنتاس بن هركلش ويقال‏:‏ هرقول الجبار الذي هو ابن الاسكندر الأعظم ولي أبوه فيليبس الملك في بلد مجدونية ويقال‏:‏ مقدونية خمسًا وعشرين سنة استنبط فيها ضروبًا من المكر وابتدع أنواعًا من الشرّ تقدّم فيهاكل من ولي الملك بها قبله‏.‏

وكان في أوّل أمره قد جعله أخوه الإسكندر رهينة عند أمير من الروم فأقام عنده ثلاث سنين وكان فيلسوفًا فتعلم عنده ضروب الفلسفة فلما قتل أخوه الإسكندر اجتمع الناس على تولية فيليبس فولوه أميرًا فقام في السلطان مقامًا عظيمًا فحارب الروم وغلب عليهم ومضى إلى البرية فقتل بها من الناس آلافًا وغلب على مدائن فاجتمع له جمع لا يقاد وجيش لا يرام فأذل جميع الروم وذهبت عينه في بعض الحروب وغمر البلدان والمدائن عمارة وهدمًا وسبيًا وانتهابًا ثم حشد جميع أهل بلد الروم وعبأ عسكرًا فيه‏:‏ مائتا ألف راجل وخمسون ألف فارس سوى من كان فيه من أصحابه المقدونيين ومن غيرهم من أجناس اليونانيين يريد غزو الفرس‏.‏

فبينما هو يجمع هذا الجمع نظر في تزويج ابنة له يقال لها‏:‏ قلوبطرة من ختنه أخي امرأته وخال ولده الإسكندر وجلس قبل العرس بيومين يحدّث قوّاده إذ سُئل عن أيّ الموتات أحق أن يتمناها الإنسان‏.‏

فقال‏:‏ الواجب على الرجل القويّ الظافر المجرّب يريد نفسه أن لا يتمنى الموت إلا بالسيف فجأة لئلا يعذبه المرض وتحل قوله الأوجاع فعجل له ما تمنى في ذلك العرس وذلك أنه حضر لعبًا كان على الخيل بين ولده الإسكندر وختنه الإسكندر فبينما هو في ذلك غافله أحد أحداث الروم بطعنة فقتله بها ثائرًا بأبيه عندما تمكن منه منفردًا فولي الإسكندر الملك بعد أبيه فيليبس وكان أوّل شيء أظهر فيه قوته وعزمه في بلد الروم وكانوا قد خرجوا عن طاعة المقدونيين إلى طاعة الفرس فدرسهم واستأصلهم وخرب مدنهم وجعلهم سبيًا مبيعًا وجعل سائر بلادهم وكورهم تؤدي إليه الخراج ثم قتل جميع أختانه وأكثر أقاربه في وقت تعبيته لمحاربة الفرس وكان جميع عسكره اثنين وعشرين ألف فارس وستين ألف راجل وكانت مراكبه خمسمائة مركب وثمانين مركبًا فحرّك بهذه العدة كبار ملوك الدنيا وسار إلى الإسكندرية ودخل بيت المقدس وقرّب فيه للّه تعالى قربانًا وخرج يريد محاربة دارا وكان في عسكر دارا ملك الفرس في أوّل ملاقاته إياه ستمائة ألف مقاتل فغلبه الإسكندر وكانت إذ ذاك على الفرس وقعة شنعاء ونكبة دهياء قتل فيها منهم عدد لا يحصى ولم يقتل من عسكر ومضى الإسكندر ففتح مدائن وانتهب ما فيها فبلغه أنّ دارا قد عَبَّأ وأقبل نحوه بجمع عظيم فخاف أن يلحقه في ضيق الجبال التي كان فيها فقطع نحوًا من مائة ميل في سرعة عجيبة حتى بلغ مدينة طرسوس وكاد يهلك لفرط البرد حتى انقبض عصبه فلاقاه دارا في ثلثمائة ألف راجل ومائة ألف فارس فلما التقى الجمعان كاد الإسكندر يفرّ لكثرة ما كان فيه دارا وقلة ما كان فيه ووقع القتال بينهما وباشر القوّاد الحرب بأنفسهم وتنازل الأبطال واختلف الطعن والضرب وضاق الفضاء بأهله فباشر كلا الملكين الحرب بأنفسهما دارا والإسكندر وكان الإسكندر أكمل أهل زمانه فروسية وأشجعهم وأقواهم جسمًا فباشرا حتى جرحا جميعًا وتمادى الحرب بيعهما حتى انهزم دارا ونزلت الوقيعة بالفرس فقتل من راجلهم نحو من ثمانين ألفًا ومن فرسانهم نحو من عشرة آلاف وأسر منهم نحو من أربعين ألفًا ولم يسقط من عسكر الإسكندر إلا مائتان وثلاثون راجلًا ومائة وخمسون فارسًا فانتهب الإسكندر جميع عسكر الفرس وأصاب فيه من الذهب والفضة والأمتعة الشريفة ما لا يحصى كثرة وأصيب من جملة الأسارى‏:‏ أم دارا وزوجته وأخته وابنتاه فطلب دارا من الإسكندر فديتهنّ بنصف ملكه فلم يجبه إلى ذلك فعبى دارا مرّة ثالثة وحشد الفرس عن آخرهم واستجاش بكل من قدر عليه من الأمم فبعث الإسكندر قائدًا في أسطول للغارة على بلد الفرس ومضى الإسكندر إلى الشام فتلقاه هنالك ملوك الدنيا خاضعين له فعفا عن بعض ونفى بعضًا وقتل بعضًا ومضى إلى إحراز طرسوس وكانت مدينة زاهرة قديمة عظيمة الشأن وأهلها قد وثقوا بعون أهل إفريقية لهم لصهر كان بينهم فحاصرهم فيها حتى افتتحها ومضى منها إلى رودس وإلى مصر فانتهب الجميع وبنى مدينة الإسكندرية بأرض مصر وقال هروشيوش‏:‏ وله في بنيانها أخبار طويلة وسياسات كرهنا تطويل كتابنا بها‏.‏

ثم إنّ دارا لما يئس من مصالحته أقبل في أربعمائة ألف راجل ومائة ألف فارس فتلقى الإسكندر مقبلًا من ناحية مصر في أعمال مدينة طرسوس فكانت بينهما معركة عجيبة شنيعة اجتهادًا من الروم على ما كانوا خبروه واعتادوا من الغلبة والظفر واجتهادًا من الفرس بالتوطين على الهلاك وتفضيل الموت على الرق والعبودية فقلما يحكى عن معركة كان القتل فيها أكثر منه في تلك المعركة فلما نظر دارا إلى أصحابه يُتغلَب عليهم ويُهزمون عزم على استعجال الموت في تلك الحرب بالمباشرة لها بنفسه والصبر حتى يقتل معترضًا للقتل فلطف به بعض قوّاده حتى سلوه فانهزم وذهبت قوّة الفرس وعزهم وذل بعدها سلطانهم وصار بلد المشرق كله في طاعة الروم وانقطع ملك الفرس مدة أربعمائة عام وخمسين عامًا واشتغل الإسكندر بتحصيل ما أصاب في عسكر الفرس والنظر فيه وقسمته على عسكره ثلاثين يومًا ثم مضى إلى مدينة الفرس التي كانت رأس مملكتهم والتي اجتمعت فيها أموال الدنيا ونعمها فهدمها ونهب ما فيها فبلغه عن دارا أنه صار عند قوم مكبلًا في كبول من فضة فتهيأ وخرج في ستة آلاف فوجده بالطريق مجروحًا جراحات كثيرة فلم يلبث أن هلك منها فأظهر الإسكندر الحزن عليه والمرثية له وأمر بدفنه في مقابر الملوك من أهل مملكته وكان في أمر هذه الثلاث معارك عبرة لمن اعتبر ووعظ لمن اتعظ إذ قتل فيها من أهل مملكة واحدة نحو من خمسة عشر ألف ألف بين راكب وراجل من أهل بلد آسيا وهي العراق وقد كان قتل من أهل تلك المملكة قبل ذلك بنحو من ستين سنة نحو تسعة عشر ألف ألف إلى ألف ألف ما بين راكب وراجل من أهل بلد العراق والشام وطرسوس ومصر وجزيرة رودس وجميع البلدان الذين درسهم الإسكندر أجمعين وكان سلطان الدنيا مقسومًا بين قوّاده بعد ما زلزل بدواهيه العظيمة العالم كله وعمّ أهله بعضًا بالمنايا الفظيعة وبعضًا بالتوطين عليها والمباشرة لأهوالها وأوصى عند وفاته أن يلقب كل قائم في اليونانيين بعده‏:‏ ببطليموس تهويلًا للأعداء لأنّ معناه الحربيّ فهذا هو الصحيح من خبر الإسكندر فلا يلتفت إلى ما خالفه‏.‏

ويقال‏:‏ إنه كان أشقر أزرق وهو أوّل من سمر بالليل وكان له قوم يضحكونه ويحكون له الخرافات يريد بذلك حفظ ملكه وحراسة نفسه لا اللذة وبه اقتدى الملوك في السمر واتخاذ ذكر تاريخ الإسكندر قال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني‏:‏ تاريخ الإسكندر اليونانيّ الذي يلقبه بعضهم بذي القرنين على سني الروم وعليه عمل أكثر الأمم لما خرج من بلاد يونان وهو ابن ست وعشرين سنة لقتال دارا ملك الفرس‏.‏

ولما ورد بيت المقدس أمر اليهود بترك تاريخ داود وموسى عليهما السلام والتحوّل إلى تاريخه فأجابوه وانتقلوا إلى تاريخه واستعملوه فيما يحتاجون إليه بعد أن عملوه من السنة السادسة والعشرين لميلاده وهو أوّل وقت تحرّكه ليتموا ألف سنة من لدن موسى عليه السلام وبقوا معتصمين بهذا التاريخ ومستعملين له وعليه عمل اليونانيين وكانوا قبله يؤخرون بخروج يونان بن نورس عن بابل إلى المغرب‏.‏و